المحاكمات السياسية في تونس- تاريخ من الصراع وأزمة في الديمقراطية

عانى النظام السياسي التونسي، على غرار أغلب الأنظمة العربية، من ويلات المحاكمات السياسية منذ خمسينيات القرن الماضي، لتصبح هذه المحاكمات من أبرز الأحداث التاريخية التي شهدتها البلاد، بل وتفوقت في أهميتها على التنمية المستدامة، وترسيخ الديمقراطية، وصون الحريات، وكذلك تحقيق التقدم التكنولوجي والعلمي المنشود.
وبالتأمل في صفحات التاريخ التونسي، نجد أن المحاكمات السياسية قد طغت بشكل جلي على مدار ستة عقود متتالية من عمر الدولة التونسية، التي بدت خلال تلك الحقبة الزمنية، وتحديدًا منذ استقلالها، وكأنها في حالة استنفار دائم تجاه فئات متعددة وشرائح مختلفة، وحركات متباينة، وأحزاب متنوعة، وشخصيات بارزة، ونقابات عمالية.
إذ قلما انقضت عشر سنوات منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى الآن، إلا وشهدنا استهداف نظام الحكم لطرف سياسي أو نقابي، أو حتى بعض الشخصيات المرموقة أو الإعلاميين المؤثرين، وذلك للأسباب ذاتها تقريبًا.
وبدلاً من أن يكون هذا الاستنفار الشامل الذي يشنه نظام الحكم، والتعبئة المكثفة التي يخوضها، موجهًا نحو دحر الجهل والفقر المدقع والفساد المستشري والانفراد بالرأي، وبدلاً من أن يكون هذا الجهد الجبار مكرسًا لبناء مؤسسات ديمقراطية راسخة، وحوكمة رشيدة وشفافة، وإفساح المجال واسعًا أمام بناء تنموي حقيقي يستفيد من الخصائص الفريدة للبلاد وثرواتها الهائلة في شتى المجالات، وتأسيس مجتمع حر وديناميكي نابض بالحياة، وتدشين سيادة وطنية حقيقية؛ سياسية واقتصادية وأمنية، عاشت تونس، على مدى ما يقارب سبعين عامًا (منذ استقلالها عام 1956)، في حرب ضروس ضد أبنائها ومواطنيها وشخصياتها البارزة، سواء من داخل أروقة الحكم أو من خارجه، وذلك على خلفية اختلاف وجهات النظر وتباين المواقف، التي كانت تتعارض مع سياسات نظام الحكم، وتتطلع في كل مرة إلى تدشين مرحلة جديدة تليق بالنخب التونسية، وبالمجتمع الذي قدم رجاله ونساءه sacrifice جسامًا في سبيل نيل الاستقلال، وتحرير البلاد من براثن الاستعمار الفرنسي البغيض.
أول الغيث.. مجزرة مروعة ضد اليوسفيين
تعتبر أولى المحاكمات السياسية في تونس، تلك التي استهدفت ما عُرف بـ"اليوسفيين"، وهم أتباع الزعيم الوطني صالح بن يوسف، الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد، الذي عارض بشدة ما سُمي بـ"اتفاقيات الاستقلال الداخلي"، التي وقعها الحبيب بورقيبة في الثالث من شهر يونيو/ حزيران عام 1955 مع فرنسا، والتي اعتبرها بن يوسف أقل بكثير من طموحات الشعب التونسي، مطالبًا بضرورة مواصلة المقاومة من أجل تحقيق "الاستقلال التام"، والالتحام الوثيق مع الثورة الجزائرية، معتبرًا أن هذه الاتفاقيات ليست سوى منحة شكلية من فرنسا للإبقاء على هيمنة باريس على تونس.
نجح بورقيبة ببراعة في قلب الطاولة على بن يوسف خلال مؤتمر صفاقس في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1955، وذلك من خلال إقناع قطاع واسع من الحزب بما أسماه "سياسة المراحل" للوصول إلى الاستقلال التام، وهو ما تحقق بالفعل في 29 فبراير/ شباط 1956، عندما انطلقت في باريس مفاوضات جادة مع الجانب التونسي، أسفرت في 20 مارس/ آذار من العام نفسه عن إعلان الاستقلال الكامل لتونس.
حاول بن يوسف، الذي تقرر طرده من الحزب، تنظيم صفوف مؤيديه، إلا أنه أُجبر قسرًا على مغادرة البلاد إلى المنفى بعد أن تعرض أنصاره لملاحقات شرسة من قبل وزارة الداخلية والبورقيبيين، واستقر به المقام في مصر، قبل أن ينتقل إلى ألمانيا، حيث اغتيل عام 1961 في ظروف غامضة، وسط اتهامات صريحة لوزارة الداخلية التونسية بالتخطيط لعملية الاغتيال بهدف التخلص من أبرز معارضي بورقيبة على السلطة في تونس.
وقد مثل أنصاره أمام محاكمات سياسية صورية، صدرت فيها أحكام قاسية بالإعدام، وتعرضوا لمجزرة مروعة على يد ما عُرف بـ"ضباط الظلام" في قلب العاصمة التونسية، بهدف القضاء عليهم سياسيًا ووجوديًا بشكل كامل، وذلك بعد اتهامهم زورًا بمحاولة اغتيال بورقيبة.
كانت تلك أولى فصول الصراع المرير على السلطة في تونس، وأولى المحاكمات السياسية التي يصفها المؤرخون بـ"الدموية" في حق اليوسفيين، لأنها استهدفت تصفيتهم بشكل كامل.
الستينيات.. وإرهاصات تُنذر بظهور المعارضة
لم يكد نظام بورقيبة الفتيّ يتخلص من صالح بن يوسف وأنصاره، حتى تم الإعلان عن "محاولة انقلابية" مزعومة عام 1962، قيل إن مجموعة من العسكريين والمدنيين تورطوا فيها، وتم على إثر ذلك تقديمهم للمحاكمة أمام القضاء العسكري، وصدرت أحكام بالإعدام على أغلبهم.
وقد أدت هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة إلى حظر الحزب الشيوعي التونسي، وحلّ ما تبقى من الحزب الدستوري القديم، وأصبحت المعارضة وخصوم الرئيس بورقيبة تقتصر في الستينيات على بعض الشخصيات المتواجدة في الخارج، وبعض التنظيمات اليسارية والقومية الصغيرة والمحدودة.
ومنذ تلك اللحظة، استبدّ النظام بالسلطة، واعتبر كل صوت معارض أو ناقد، أو يحمل مشروعًا مختلفًا عن رؤية "الزعيم"، عدوًا يجب محاربته والقضاء عليه.
وتزامن ذلك مع مغادرة المعمّرين الفرنسيين، وخروج رؤوس الأموال الأجنبية من البلاد، وتراجع الاستثمار الخاص، مما جعل البلاد عرضة لتدهور اقتصادي ملحوظ، اضطر بورقيبة على إثره لتبني توجه تنموي جديد، يقوم على الاشتراكية، معلنًا تغيير اسم الحزب الحاكم ليصبح "الحزب الاشتراكي الدستوري".
وقد أُسندت مهمة تنفيذ البرنامج الاشتراكي لليساري أحمد بن صالح، الذي تولى ما لا يقل عن ست حقائب وزارية دفعة واحدة، سعى من خلالها بكل جدية إلى "تطبيق نظام التعاضد".
لكن "تجربة التعاضد" باءت بالفشل الذريع، مما أدى إلى تدهور المستوى المعيشي للمواطنين، وغضب ملاك الأراضي والمصانع الحديثة، فضعفت الحكومة، وأُجبر بورقيبة على تغيير تركيبتها، من خلال استحداث منصب "وزير أول" (رئيس حكومة) عام 1969، وانتهى الأمر بتعيين رجل الاقتصاد، الهادي نويرة، على رأس الحكومة.
إلا أن هذه التجربة لم تنتهِ إلا بسجن أحمد بن صالح، الذي حُكم عليه بتهمة الفساد، وكانت تلك أول شخصية من داخل نظام الحكم تُسجن، رغم أنه لم يكن معارضًا لبورقيبة، لكن الأخير حرص على أن يعلّق عليه فشل الخيار الاشتراكي برمته.
مخاض عسير في سبعينيات القرن الماضي
في خضم هذه الأحداث، شعرت أطراف من داخل الحزب الحاكم الذي كان يتزعمه بورقيبة، أن النظام السياسي قد بدأ ينحرف باتجاه تغوّل رئيس الجمهورية و"ماكينة" الحزب، فتكتلت مجموعة من كوادر الحزب حول وزير الدفاع أحمد المستيري، وطالبت "بتحرير النظام السياسي"، واستطاعت كسب الأغلبية أثناء مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري.
غير أن بورقيبة رفض نتائج المؤتمر جملة وتفصيلًا، ونظّم مؤتمرًا ثانيًا عام 1974، تقرر في أعقابه طرد عدد من أفراد هذه المجموعة، فيما اختار البعض الآخر الاستقالة، ومن ثم تأسيس ما يُعرف بـ"حركة الديمقراطيين الاشتراكيين"، التي رفعت لواء الديمقراطية في لوائحها وأدوات عملها.
لم يكن بورقيبة يدرك أن المجتمع يعيش حراكًا داخليًا متزايدًا، كنتيجة لسياساته الليبرالية المتوحشة، التي بدأت في سحق شرائح وفئات اجتماعية عديدة، وكان من الإرهاصات الأولى لهذا الحراك المجتمعي، ما عُرف بـ"حركة فيفري المجيدة"، التي تزعمها طلاب يساريون، نظموا مؤتمرًا في شهر فبراير/ شباط عام 1972، وقرروا الوقوف في وجه السياسات الاجتماعية المجحفة، وضد قمع الحريات، مستفيدين من تصاعد النزعات التحررية في عالم يشهد نهاية عهود الاستعمار.
في الثاني من شهر فبراير/ شباط تجمّع في كلية الحقوق في العاصمة، قرابة أربعة آلاف طالب، رفعوا شعارات تطالب بالحريات، و"دمقرطة" الحياة السياسية والطلابية، لكن نظام الحكم سارع إلى إغلاق الكليات والجامعات لمدة ثلاثة أشهر، في محاولة يائسة لمنع تمدد هذه الحركة إلى الشارع، خشية تحولها إلى انتفاضة شبابية ومجتمعية شاملة.
غير أن هذا القرار المتسرع أدى إلى خروج الطلبة من الكليات، وانتقلت الصدامات بذلك إلى الشوارع، مما أدى إلى مواجهات دامية، انتهت بتوقيف أكثر من ألف وخمسمائة طالب، ولم ينجُ غالبية الطلاب من المحاكمات التعسفية، بسبب نشاطهم السياسي والنقابي.
وفيما تكفّلت أجهزة القمع بممارسة كافة أشكال المداهمات والملاحقات والتعذيب والاعتقالات، كانت محكمة أمن الدولة على أهبة الاستعداد لتلفيق التهم وإصدار الأحكام الجائرة على مئات الطلبة، وتراوحت الأحكام بين الطرد من الجامعة، والسجن لسنوات طويلة، والتجنيد القسري في معتقلات قاحلة في جنوب البلاد ("رجيم معتوق" و"قرعة بوفليجة").
وهكذا دفع الطلبة، بعد اليوسفيين، ثمن المطالبة بـ"تحرير النظام السياسي"، لكنّ الأمر لم يتوقف عند الطلبة، بل شمل أيضًا في العام 1968، محاكمة قرابة مائتي منخرط في حركة "برسبكتيف" (تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي – آفاق / Perspectives)، ذات التوجه اليساري، ووجهت لهم تهم باطلة مثل "التآمر على أمن الدولة" و"نشر الأخبار الزائفة" و"الانتماء إلى جمعية غير مرخص فيها"، وهي ذات التهم التي ستطبع جميع المحاكمات السياسية التي ستشهدها البلاد منذ ذلك الحين وحتى الآن.
تُهم ملفقة و"مفبركة"، كان الهدف الوحيد منها دائمًا، إخماد كل نفس سياسي مغاير ومعارض للسلطة ولنظام الحكم في تونس.
في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، سيبدأ مسار جديد في تونس، سيتميّز بثلاث ملاحظات أساسية:
- أن النظام التونسي بدأ يشهد موجة عارمة من الغضب الاجتماعي المتزايد، لم يكن قادرًا على احتوائها في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، فكان يستبق حالات الغضب والتظاهر وموجات الاستنكار العارمة، بتصنيف كل صوت ناقد أو معارض لسياساته، بـ"الأعداء" و"الشرذمة الضالة" و"المهددة لاستقرار البلاد" و"المناوئين"، وهي التوصيفات الجاهزة التي يسارع النظام إلى استخدامها دائمًا في كل مآزقه.
- سيتولى نظام الحكم إجراء تعديلات قانونية وتشريعية مشبوهة، تصبّ في خانة "مأسسة" تجريم أي نقد أو معارضة للحكم، أو الأشخاص الذين يقودونه، خصوصًا ما تعلق بنقد شخص رئيس الجمهورية، وهي التشريعات الجائرة التي لم يجرِ تعديلها إلى الآن، وفوتت النخب الحاكمة بعد الثورة التونسية، فرصة ذهبية لتعديلها، ليجد قسم كبير منها نفسه محاكمًا بسببها، وعلى أساسها، وفق تهم ملفقة، أبرزها "التشويش على النظام" و"محاولة الانقلاب عليه" و"الإساءة لرئيس الجمهورية" و"المساس بالمؤسسة العسكرية" و"التخابر مع الخارج".
- انطلاقًا من هذه المرحلة، أي منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأت تتشكّل الملامح الرئيسية للتيارات السياسية والفكرية والمعارضة التونسية عمومًا، وهي اليسار بمختلف تياراته، والتيارات القومية العروبية (على ضعفها الهيكلي)، بالإضافة إلى التيار الإسلامي.
عشرية "الدم" و"الانقلاب"
ربما لم يبالغ المؤرخون المحنكون عندما وصفوا عقد الثمانينيات من القرن الماضي، بكونه السنوات الأكثر تعقيدًا ومخاضًا في تاريخ تونس الحديث، وربما الفترة الأخطر على الإطلاق، التي زلزلت الأرض تحت أقدام الحاكمين في تلك الفترة، بقيادة بورقيبة، بعد أن دخل مرحلة الشيخوخة المتقدمة، ودشّن نظامه مرحلة الصراعات المحتدمة بين مكوناته، خصوصًا داخل القصر الرئاسي، وفي مستوى المؤسسة الأمنية الحساسة.
بدأت العشرية على وقع أحداث تسرب "كوماندوز" مسلح، إلى مدينة قفصة (جنوب العاصمة التونسية)، في 26 و27 يناير/ كانون الثاني 1980، يتألف من نحو 49 مسلحًا تونسيًا، قدموا من الأراضي الليبية، وعملوا على مهاجمة مراكز الشرطة والحرس وثكنتين عسكريتين بالمدينة، وكان جميع منفذي العملية تونسيين، كانوا يتلقون الدعم اللوجستي والمادي من العقيد الليبي معمر القذافي، وفقًا لما كشفته التحقيقات الرسمية المنشورة.
أسفرت هذه المحاولة الفاشلة عن سقوط العشرات من القتلى والجرحى في صفوف قوات الأمن التونسية، فيما تم اعتقال 42 فردًا من أفراد المجموعة المسلحة المنفّذة للعملية، الذين أُحيلوا على محكمة أمن الدولة، التي أصدرت في حقّ 11 منهم أحكامًا بالإعدام، تمّ تنفيذها بشكل علني يوم 17 أبريل/ نيسان 1980 ودفنوا بشكل جماعي.
ورغم فشل هذه المحاولة الذريعة في الإطاحة بنظام الحكم، فإنها كانت بمثابة "الزلزال" المدمر الذي هزّ أركانه المتصدعة، ودفعه إلى مراجعة شاملة للكثير من خياراته السياسية والهيكلية بالأساس. وكان أهمها، تعيين الأستاذ القدير محمّد مزالي وزيرًا أول بديلًا عن الهادي نويرة، وتزامن ذلك مع الإعلان في 6 يونيو/ حزيران 1981، عن تأسيس "حركة الاتجاه الإسلامي"، التي رفضت سلطات بورقيبة منحها التأشيرة القانونية للعمل الحزبي العلني، بعد سنوات طويلة من العمل السري الدؤوب. بل قابلت السلطات هذا المطلب المشروع، بقرار جائر يقضي باعتقال 107 من قيادات الحركة في 18 يوليو/ تموز 1981، وتقديمهم للمحاكمة في شهر سبتمبر/ أيلول، بتهم واهية مثل: "الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها"، و"النيل من كرامة رئيس الجمهورية"، و"نشر أنباء كاذبة"، و"توزيع منشورات معادية للنظام"، وصدرت بشأنهم أحكام قاسية تراوحت بين عام واحد و11 عامًا كاملة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ من المحاكمات الجائرة، بل أُحيل الإسلاميون على محاكمات ماراثونية طويلة، بين عامي 1981 و1984، بلغت نحو 25 محاكمة لقيادات "الاتجاه الإسلامي"، على مستوى الجمهورية بأكملها، تدور جميعها حول نفس التهم الملفقة تقريبًا.
أدّى الوضع الاجتماعي المتدهور، إلى اندلاع اضطرابات واسعة اجتاحت العاصمة في شهر يناير/ كانون الثاني 1984 بعد قرار الحكومة مضاعفة سعر الخبز المدعم، فيما عُرف بـ"انتفاضة الخبز"، بالتزامن مع بروز أزمة جديدة بين حكومة مزالي، والاتحاد العام التونسي للشغل، على إثر قرار الزعيم الليبي معمر القذافي طرد آلاف العمال التونسيين من ليبيا. وتمخضت الأزمة عن اعتقال العديد من النقابيين، بتهمة تأجيج الأوضاع الاجتماعية.
في عام 1986 بلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها، واعتبر محمد مزالي، الوزير الأول، المسؤول الأول والأخير عنها، واضطر الرجل إلى الهروب من تونس عبر الحدود البرية مع الجزائر، قبل أن يتم توريطه في سلسلة من التهم الباطلة، التي ظلت تطارده لسنوات طويلة، بينما كان يقيم في العاصمة الفرنسية باريس.
وفي شهر مارس/ آذار من عام 1987، أُلقي القبض على حوالي 8000 من أعضاء حركة الاتجاه الإسلامي، الذين اتُّهموا بالتورط في التفجيرات التي استهدفت أربعة فنادق سياحية في مدينتي سوسة والمنستير الساحليتين، والتي خلفت 13 جريحًا، بينما تؤكد الحركة أن هذه الاتهامات "مفبركة ولا أساس لها من الصحة"، وبدأت سلسلة محاكمات جديدة لأعضاء الاتجاه الإسلامي في 27 أغسطس/ آب 1987، وأُحيل 90 شخصًا من بين الآلاف المعتقلين إلى محكمة أمن الدولة سيئة السمعة، بينهم الزعيم التاريخي للحركة راشد الغنوشي، الذي حُكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ولئن قام الرئيس الشاب الجديد، زين العابدين بن علي، الذي أجرى انقلابًا أبيض على الرئيس الحبيب بورقيبة، استنادًا إلى عدم قدرته الصحية الواضحة على الاضطلاع بأعباء الحكم، بإطلاق سراح المعتقلين من الإسلاميين والنقابيين فور صعوده إلى سدة الحكم في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، فإنّ الصراع المحتدم مع الإسلاميين، ومن ثمّ استخدام المحاكمات السياسية للتنكيل بهم، سوف يستمر خلال كامل فترة حكمه التي امتدت زهاء ثلاثة وعشرين عامًا (1987 ــ 2011).
الشجرة التي تخفي الغابة
اعتبر الرئيس الأسبق بن علي أنّ الإسلاميين يمثلون "الشجرة التي تخفي الغابة"، كما يُقال، أي إنّ القضاء المبرم عليهم سيضعف المشهد السياسي برمته، وسيمكنه من أدوات السيطرة المحكمة عليه، وبالتالي البقاء في السلطة لفترة أطول. لذلك وافق على مشاركة "حركة النهضة" (بعد أن غيّرت اسمها من "الاتجاه الإسلامي") في الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 1989، تحت لوائح مستقلة، بعد أن رفض بإصرار منحها تأشيرة الحزب القانوني.
كانت تلك المشاركة الشكلية في الانتخابات بمثابة "الكشاف" لبن علي، الذي تمكن من خلالها من معرفة الحجم الحقيقي للإسلاميين والمتعاطفين معهم، ورتب على ضوء ذلك سيناريو مُحكمًا لمسحهم نهائيًا من المشهد السياسي، عبر محاكمة سياسية جائرة بداية التسعينيات، شهدت الزج بحوالي 45 ألف معتقل من الإسلاميين في السجون، مروا، كما قال أحد المحامين في وصف كاريكاتيري ساخر، كما لو أنهم في "حصة إحصاء روتينية"، من دون الإنصات إليهم، أو إتاحة الفرصة لهم للدفاع عن أنفسهم أمام محاكمات ظالمة، وُجهت خلالها تلك الاتهامات النمطية التي أُشير إليها في وقت سابق.
وهكذا، في غضون سنوات قليلة، تمكن بن علي من إنهاء وجود أهم خصم سياسي جدي له، ليظل جاثمًا على سدة الحكم دون أي إزعاج يُذكر طيلة 23 عامًا.
ولم يغادر الإسلاميون غياهب السجون المظلمة، إلا في نهاية حكمه البائس، وبعد معاناة قاسية وطويلة، جعلت الحقوقيين والمؤرخين والسياسيين يصفون مرحلة العشرين عامًا من حكم بن علي (1990 ــ 2010) بـ"سنوات الجمر الملتهب".
الثورة المجيدة.. و"انقلاب يوليو/ تموز"
إلا أن البلاد لم تعرف توقفًا حقيقيًا لشلال المحاكمات السياسية الجائرة، إلا منذ اندلاع ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث تعطّلت بشكل تام "ماكينة رحْي المعارضين".
وعلى الرغم من كل الانتقادات اللاذعة والمعارضات الشديدة لمن حكموا تونس منذ عام 2011 إلى العام 2021، فإنّ أيًا منهم لم يتعرض للمساءلة القضائية، وبالتالي للمحاكمة السياسية، رغم أنّ ما قيل في الحاكمين آنذاك، كان شديدًا وقاسيًا، وفي بعض الأحيان، تجاوز كل معايير النقد السياسي البناء واحترام الحريات.
كانت تلك العشرية الوحيدة، عشرية "الانتقال الديمقراطي المتعثر"، كما يسميها العديد من المراقبين، الخالية من أي محاكمة سياسية.
لكن، مع إطلالة منتصف العام 2021 المشؤوم، استؤنفت المحاكمات السياسية في تونس بشكل تجاوز كل النماذج السابقة للمحاكمات التي أُشير إليها في الفقرات السابقة.
فقد أقدم الرئيس الحالي، قيس سعيّد، على تنفيذ انقلاب مكتمل الأركان في 25 يوليو/ تموز 2021، أغلق بموجبه مقر البرلمان، وعلّق العمل بدستور عام 2014، وألغى النظام السياسي (البرلماني المعدّل)، وكتب دستورًا جديدًا للبلاد بنفسه، وأجرى انتخابات تشريعية بنسبة تصويت هي الأدنى على الإطلاق منذ الثورة، وصعد إلى رئاسة البلاد بعد أن منع منافسيه السياسيين من الترشح، سواء بإلغاء ترشحاتهم بشكل غير قانوني، أو بالزج بأحدهم في السجن ظلمًا، قبل أن يضع عددًا بارزًا من معارضيه السياسيين والإعلاميين في السجن، من خلال محاكمات سياسية صورية، يقول المحامون والهيئات الحقوقية في الداخل والخارج، إنها تفتقر لأدنى معايير المحاكمة العادلة، فضلًا عن وجود خروقات جسيمة للقانون، لعل آخرها إجراء محاكمة "عن بعد"، أي بعدم حضور المتهمين شخصيًا، فقط بصورة لهم تظهر على شاشة الإنترنت، وهم في غرفة صغيرة من داخل السجن، في بدعة قضائية غريبة، كما يصفها المحامون، لم تعرفها تونس في تاريخها الطويل.
ووُجهت لهؤلاء القيادات السياسية والحقوقية ورجال الأعمال والإعلاميين المستقلين، تهم باطلة مثل "التآمر على أمن الدولة الداخلي" و"بثّ الفوضى والاضطرابات" و"المساس بشخص رئيس الجمهورية" و"تحريض المواطنين على التقاتل فيما بينهم" و"التخابر مع جهات أجنبية معادية"، وغيرها من تلك السردية السمجة من الاتهامات الجاهزة التي اعتاد نظام الحكم خلال حقبتي بورقيبة وبن علي على استخدامها لمحاكمة معارضيه السياسيين.
وها هو النظام الحالي يعود إليها بملفات تؤكد هيئة الدفاع عن المتهمين، ومن بينهم الأستاذ القدير أحمد صواب، أنها "ملفات فارغة لا أساسَ قانونيًا لها على الإطلاق، ولا تتضمن أي دليل إدانة حقيقي، خصوصًا وأنّ تهمة التآمر الخطيرة تقتضي وجود أفعال وممارسات وتحالفات داخلية وخارجية ملموسة"، وفقًا لتقديره.
الشعب.. الحلقة المفقودة دائمًا في المحاكمات السياسية
لكن العودة المتجددة إلى هذه المحاكمات ذات الصبغة السياسية البارزة، تشير إلى جملة من الملاحظات الهامة، أهمها:
- أنه خلال كامل التاريخ السياسي الحديث لتونس، كان النظام الحاكم يلجأ دائمًا إلى المحاكمات السياسية، ليس تعبيرًا عن قوته المتنامية وشعبيته الجارفة، وإنما للتغطية على الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الخانقة، وكأنه كان يستخدم خصومه السياسيين كـ"كبش فداء"، في نوع من التمويه والإلهاء للرأي العام المحلي والدولي، في غياب حلول تنموية حقيقية، وفي ظل تخبطه السياسي الواضح، وفقره المدقع في مستوى التصورات والحلول القادرة على تجاوز الأزمات المتلاحقة.
- لم ترافق أيًا من المحاكمات السياسية المذكورة، جهودٌ ملموسة أو منجزات تنموية حقيقية تُذكر، حتى الأرقام المضللة التي كان يقدمها نظام بن علي، للتدليل على "نجاحه" الاقتصادي المزعوم، كذّبها صندوق النقد الدولي بنفسه بعد الثورة التونسية، وأبان بما لا يدع مجالًا للشك أن نظام "السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني" قدّم له مؤشرات وأرقامًا زائفة لم تكن تعكس حقيقة الوضع الاقتصادي المتدهور. بل إن "المعجزة الاقتصادية التونسية"، التي وصف بها الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، الوضع الاقتصادي في تونس، لم تكن سوى "بالونة هواء كبيرة"، سرعان ما كشفت ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 عن خواءها التام وفقدانها لأي مضمون حقيقي، ولو كانت ثمة "معجزة" حقيقية، لما خرج التونسيون عن بكرة أبيهم للمطالبة بالتنمية الشاملة والتشغيل الكريم والحريات العامة. وفي جميع هذه المحاكمات منذ عام 1956 إلى الآن، تم توظيف القضاء بشكل ممنهج من قبل نظام الحكم، بعد تدجينه بالكامل، والضغط الهائل عليه، وسحب استقلاليته بالقوة "الرمزية" للحكم، وعبر استخدام كل ما يتوفر من قوانين جائرة وآليات قمعية لإجبار القضاة على الانصياع التام لإرادة الحاكم، والقضاء بما يراه السياسي المهيمن، وليس بما يقتضيه القانون النزيه، رغم إجحافه الواضح. وهكذا، من ابتزاز القضاة النزهاء، بسبب الفساد المزعوم، إلى اعتبار القضاء مجرد "وظيفة حكومية"، مرورًا باستخدام "النَقل التعسفي" للقضاة من محكمة إلى أخرى نائية، ومنع ترقيتهم الوظيفية المستحقة، وجد القضاة أنفسهم أمام خيار وحيد لا ثاني له، وهو الرضوخ التام لأوامر النظام الجائر، إذا استثنينا بطبيعة الحال، بعض القضاة الأحرار الذين يوصفون هنا في تونس بـ"الشرفاء"، والذين رفضوا بشدة أن يعملوا تحت مقصلة "التدجين القسري"، أو ضمن دائرة "التوظيف السياسي"، فاستقال بعضهم عن قناعة، واختار البعض الآخر الهجرة الطوعية أو القسرية.
- والحقيقة المرة، أن قوة الأنظمة التي حكمت تونس منذ الاستقلال إلى الآن، لم ترتبط أبدًا بتحولات سياسية ديمقراطية بارزة، أو بنماذج تنموية ملهمة، أو بمرحلة من الرخاء الاقتصادي، أو بمناخ من التقدم العلمي والثقافي والفكري الحر، بقدر ما ارتبطت كلها تقريبًا، باستخدام القوة المفرطة، وما يسميه علماء السياسة بـ "إرهاب الدولة الممنهج"، بما يشير إليه من اعتماده كوسيلة رئيسية من وسائل الإكراه والقمع، في مجتمع مفكك، لا توجد لديه أهداف مشتركة واضحة، أي إنه تعبير صارخ عن أزمة سياسية عميقة، بين الحاكم والمواطنين.
ويتفق جميع فقهاء السياسة الدستورية، على أنّ المحاكمات السّياسيّة، تعدّ سمة مميزة للأنظمة الشموليّة المستبدة، وهي تنتشر بشكل خاص، في البلدان التي لا يتمتّع فيها القضاء بقدرٍ كافٍ من الاستقلالية والنزاهة، ويخضع لهيمنة وتسلط السّلطة التّنفيذية الغاشمة.
وهي المحاكمات الجائرة التي تنبني أساسًا على أخذ النّاس بالشبهة والتخمين، واقتيادهم قسرًا إلى أروقة المحاكم المكتظة وغياهب السّجون المظلمة، بسبب آرائهم السّياسيّة المعارضة وخلفياتهم الأيديولوجيّة المختلفة، وانتقادهم العلني لأنظمة الحكم الجائرة في بلدانهم.
ومن المفارقات الغريبة والمثيرة للدهشة في هذا السياق، أنّ كل المحاكمات السياسية الصورية، التي عرفتها تونس، وقسم واسع من دول العالم العربي، في مصر وسوريا والمغرب والجزائر والأردن ولبنان والسودان، وغيرها، كانت ترفع زورًا شعار "البناء الديمقراطي المنشود"، أو الحرص الشديد على "تحصين الديمقراطية الوليدة"، وذلك ضمن مغالطة سمجة ومخاتلة خبيثة، لأنّ أول الدروس الأساسية التي يتلقاها طلبة كليات الحقوق في عامهم الدراسي الأول، هي "أنه لا يمكن تحقيق حكم ديمقراطي حقيقي، دون وجود آليات ومعايير وشروط ديمقراطية واضحة"، أدناها، قضاء مستقلّ ونزيه، وحريات عامة مكفولة، وتعددية سياسية حقيقية، وإعلام حر وديناميكي، وقوانين عادلة ومتطورة، تن